إكتسب السحور قيمته الروحية من الحديث النبوي: ' تسحروا فإن في السحور بركة' ـ والسحر هو الوقت من منتصف الليل إلي آذان الفجر. ـ ويبدو أن الصحابي الجليل' بلال بن رباح' كان أول من إلتفت لضرورة إيقاظ الناس لتناول طعام السحور, فكان يدور طوال الليل في طرقات المدينة ينبههم بصوته العذب. ـ فقال الرسول الكريم( صلي الله عليه وسلم):' إن بلالا ينادي بليل, فكلوا واشربوا حتي يؤذن ابن أم مكتوم'. ـ وكان أول مسحراتي في مصر' عتبة بن اسحق' والي مصر في زمن الفتح الإسلامي, وكان يخرج بنفسه في مدينة الفسطاط لتسحير الناس صائحا' يا عباد الله تسحروا فإن في السحور بركة'. ـ ولاحقا أمر الحاكم بأمر الله الفاطمي بأن ينام الناس بعد صلاة التراويح, ووجه جنوده للمرور علي البيوت ودق الأبواب ليوقظوهم عند السحور, وتدريجيا تم تخصيص رجل للقيام بدور المسحراتي, وراتبه علي الدولة, فأصبحت مهنة, وأقبل عليها الناس رغم قصر مدتها. ـ وفي عهد الخليفة العباسي المنتصر بالله, إبتكر أهل بغداد فن القومة الغنائي الخاص بسحور رمضان, وتبقت منه شذرات منسوبة' لـصفي الدين الحلي'. ـ ويقال ان' ابن نقطة' كان أشهر من امتهن التسحير, وكلف بإيقاظ الخليفة الناصر لدين الله فتغني بشعر' القومة', وهو شعر شعبي له وزنان مختلفان, كان ينادي:' يا نياما قوموا.. قوموا للسحور قوموا', فأعجب الخليفة بسلامة ذوقه ولطف إشارته فأعطاه أضعاف أجره. ـ وكان المسحراتي ينشد أربعة تذكيرات, الأولي يقول فيها:' أيها النوام قوموا للفلاح واذكروا الله الذي أجري الرياح.. إن جيش الليل قد ولي وراح وتداني عسكر الصبح ولاح.. اشربوا عجلي فقد جاء الصباح'. وفي الثانية يقول: تسحروا رضي الله عنكم.. كلوا غفر الله لكم.. كلوا من الطيبات واعملوا الصالحات', وفي الثالثة يقول:' يا مدبر الليالي والأيام, يا خالق النور والظلام.. يا ملجأ الأنام ذا الجود والإكرام', وفي الرابعة:' كلوا واشربوا وعجلوا فقد قرب الصباح واذكروا الله في القعود والقيام وارغبوا إليه تعالي بالدعاء والثناء'. ـ وكان أغلب من يقومون بالتسحير من المتصوفة والدراويش, تقربا إلي الله تعالي. ـ وفي مكة كان' الزمزمي' أشهر من نادي بالسحور من فوق المسجد, وكانت له طريقة فريدة بجوار الصوت, فكان يربط قنديلين كبيرين في حبل ويدليهما من فوق المسجد ليراهما من بعيد من لايسمع الأذان فيدرك السحور في أوانه. ـ وتطور التسحير في مصر بابتكار طبلة'البازة', ليدق عليها المسحراتي بدلا من العصا علي الأبواب, وهي صغيرة الحجم والدق عليها يكون منتظما, ثم استعان المسحراتي بالطبلة الكبيرة, وأنشد الأشعار الشعبية الخاصة بالمناسبة. ـ ونساء القاهرة كن يلقين إلي المسحراتي بقطعة نقود معدنية في قماشة يشعلن طرفها ليستدل عليها, وليذكر أسماء أهل الدار, ما عدا النساء بالطبع, ويقرأ الفاتحة للراحلين. ـ وفي عهد ابن طولون امتهنت المرأة التسحير, وكان يشترط أن يكون صوتها جميلا, وأن تكون معروفة لسكان الحي. ـ وكادت مهنة المسحراتي تندثر من مصر لولا أنقذها الظاهر بيبرس في العصر المملوكي, وحفظ ظاهرة المسحراتي كطقس موسمي محبب تعلق به الناس. ـ وبرع المصريون في إضفاء طابع اجتماعي حميم علي طقوس رمضان, خاصة المسحراتي الذي كان يقوم بدور اجتماعي لطيف, فإذا رزق أحدهم بمولود جديد ذكر اسمه وابتهل إلي الله ليباركه, وإذا عرف أن أحدهم نومه ثقيل كان يتلكأ تحت شباكه ويكرر نداء إسمه بصوت عال, ليوحي للجيران بأنه لايريد أن يصحو, ويظل يستفزه بخفة ظل إلي أن ينهض من فراشه, وكانوا يداعبون البعض بأشعار رقيقة يدخلون فيها أسماءهم, وبعضهم كان صوته شجيا, ويحفظ الأدعية الدينية, والأشعار الشعبية, فيوقظ الناس بحسن غنائه. ـ وانبهر بعض الرحالة والمستشرقين بالمسحراتي وذكروه في كتاباتهم منهم' ابن الحاج' الرحالة المغربي الذي زار مصر في عهد الناصر محمد بن قلاوون. ودون المستشرق الإنجليزي' إدوارد وليم لين' الذي زار مصر في عهد محمد علي أغاني المسحراتي وسجل النوتة الموسيقية لكل أغنية, خاصة أن المسحراتي بمرور الزمن نضج, وأصبح فنانا أكثر منه منبها, وبات يستخدم الموسيقي والغناء والتشخيص في أدائه ليمتع الناس ويسليهم, لكنه لم ينس في أية مرحلة أنه في رحاب شهر إستثنائي, يحييه بمقولات مختلفة في كل ثلث منه, ففي العشر الأوائل يناديه:' جئت يا شهر الصيام بالخير والبركات', والعشر التالية يقول:' يا نصف رمضان يا غفران الذنوب', وفي الأواخر تشاغله مخاوف الفراق المبكر, وحيث لا مناص من التوحيش يقول:' لا أوحش الله منك يا شهر الصيام'. ـ ومع ظهور المدافع استخدم المدفع في مصر لإعلان وقت الإفطار والسحور, بإطلاق طلقة واحدة, ووضع علي جبل المقطم الذي يطل علي القاهرة, وكانت العاصمة القديمة كلها قريبة منه, لدرجة يسهل معها سماع صوت الطلقة, ومايزال مدفع' الحاجة فاطمة' يعمل للآن, بدلالة تاريخية يخفق لها القلب, أكثر منها مهمة عملية أفقدها التقدم التكنولوجي زخمها, مثلما فعل بالمسحراتي. ـ ومؤخرا إجتذب' المسحراتي' الشاعر الكبير فؤاد حداد وإنفعل به الفنان سيد مكاوي, فأضفيا علي' المسحراتي' بعدا فنيا, ومنذ إنطلق من الإذاعة المصرية عام1964, امتزج الديني بالوطني, والهم الخاص بالإنساني, وأنشد:' وكل حتة من بلدي.. حتة من كبدي.. حتة من موال..', فانتشلا المسحراتي من الأزقة, والركاكة, وأعادا ربط وجدان الناس برمضان/ الوطن, وقضاياه بفنية رفيعة. والراديو ينظر البعض كان أرفق بالمسحراتي لانه شاطره إبداعه ودوره أما التليفزيون فشوش المخيلة وعطل قدراتها وطمس الذكريات بالمسابقات الفجة وصخب الإعلانات واجهز علي آخر ما تبقي في أذهاننا من صورة المسحراتي الذي كان يخفف وطأة الصوم والنعاس والتوحيش. ****************************
الاهرام